خروج القواعد من الخليج.. قراءة في الكرامة والإرادة – وكالة اخبار المستقبل


بقلم د. غادة محفوظ

باحثة في قضايا التنمية والوعي المجتمعي

تظل قضية القواعد الأجنبية في الخليج واحدة من أكثر القضايا حساسية في المشهد الإقليمي، فهي ليست مجرد ترتيبات عسكرية بل انعكاس مباشر لمعادلة السيادة والكرامة من ناحية، وللتوازنات الدولية ومصالح القوى الكبرى من ناحية أخرى. الحديث عن قرار خروج هذه القواعد ليس قرارًا إداريًا عابرًا، وإنما تحول استراتيجي يضع المنطقة أمام اختبار صعب بين أن تستعيد استقلال قرارها أو أن تبقى رهينة التبعية.

إن خروج القواعد من حيث المبدأ يمثل ردًا للكرامة الوطنية وإشارة واضحة إلى أن الأمن لا يُشترى من الخارج بل يُبنى من الداخل، وأن الاعتماد على الذات هو الضمانة الحقيقية للاستقرار. غير أن الواقع يكشف أن الرمزية وحدها لا تكفي، فغياب البدائل الجاهزة قد يفتح الباب أمام فراغ استراتيجي يُستغل من قبل قوى إقليمية أو دولية تسعى للتمدد في المنطقة، وهو ما يجعل القرار رغم صعوبته أشبه بفرصة تاريخية ما زالت تنقصها الإرادة السياسية الجامعة.

القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة لن تقف متفرجة على تحول بهذا الحجم، لأنها ربطت أمنها ومصالحها لعقود باستمرار وجودها العسكري في الخليج، كما أن قوى إقليمية مثل إيران وتركيا قد تنظر إلى انسحاب القواعد باعتباره فرصة لإعادة التموضع وفرض معادلات جديدة على الأرض. ومن هنا يبرز التحدي الأكبر وهو أن نجاح القرار لا يتوقف على إعلان الانسحاب بل على وجود رؤية عربية متماسكة قادرة على ملء الفراغ وحماية الاستقرار.

بالنسبة لمصر، فإن أمن الخليج لطالما اعتُبر جزءًا لا يتجزأ من أمنها القومي، وأي تحولات في هذا المشهد ستنعكس بالضرورة على القاهرة. فإما أن تنخرط مصر بدور فاعل في دعم بناء منظومة أمنية عربية مستقلة تسد الفراغ وتعزز التعاون، وإما أن تواجه خطر تداعيات إقليمية غير محسوبة قد تؤثر على استقرارها ومصالحها. وهنا يتجلى البعد الاستراتيجي لدور مصر باعتبارها الدولة الأكثر قدرة تاريخيًا وعسكريًا وسياسيًا على قيادة هذا التحول وصياغة معادلة جديدة تحفظ للمنطقة أمنها وتوازنها.

إن ما جرى في قطر وما تبعه من نتائج إقليمية يعكس أن القرارات في منطقتنا لم تعد محلية بحتة، بل هي جزء من شبكة مصالح ممتدة، وأن أي تحول بهذا الحجم لا بد أن يضع مصر في قلب المشهد، لا على الهامش. الفرصة قائمة لكن الإرادة ما زالت محل اختبار، فإما أن تتحول اللحظة إلى بداية لاستقلال استراتيجي وكرامة حقيقية، أو أن تضاف إلى سجل طويل من الفرص الضائعة.

في النهاية يبقى الدرس الأساسي أن الكرامة الوطنية ليست شعارًا عاطفيًا، بل ممارسة واقعية تتطلب استعدادًا للتضحية، وبناء بدائل، وإرادة سياسية تتجاوز الحسابات الضيقة نحو مشروع عربي جامع. وإذا ما امتلكت المنطقة هذه الإرادة فإن خروج القواعد لن يكون مجرد حدث عسكري، بل بداية لمرحلة جديدة تعيد صياغة حاضرنا وتفتح أفقًا لمستقبل لا مكان فيه للتبعية ولا للهيمنة.







Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *